يروي فريد طعاملة في قريته قيرة قرب سلفيت كيف ينتظر الناس أول قطرات المطر بمزيج من الشوق والقلق. يجلب المطر معنى يتجاوز بداية الموسم الزراعي، فيصير طمأنينة بأن الحياة تتواصل رغم كل ما يدور حولهم. في زمن تتشظى فيه الأرض وتُقيَّد مصادر المياه وتُثقل كاهل المزارعين العوائق اليومية، يبدو الغيث رحمةً ومقاومةً صامتة، تذكيرًا بأن الأمل يتسلل عبر الشقوق مهما اشتدت الضغوط. يربط المطر الناس بأسلاف قرؤوا السماء بحكمة متوارثة، ويغرسهم في الأرض برباط أعمق من أي وثيقة ملكية، فتعود أصوات الأطفال وهم يلاحقون القطرات، وتلمع عيون الشيوخ وهم يسردون حِكم الفصول.

 

وينفل ميدل إيست مونيتور هذا السرد الذي يمتد من ذاكرة الريف إلى حاضر تتكئ فيه المعرفة الشعبية على ملاحظة الطبيعة. تعتمد فلسطين على موسمين رئيسيين: صيف جاف بين مايو وأكتوبر، وشتاء ممطر من منتصف أكتوبر حتى أبريل. صاغ الناس تقويمًا موسميًا دقيقًا رصدوا فيه الغيوم والرياح والأرض، فصار ما يبدو فولكلورًا سجلًا بيئيًا عمليًا يهدي خطوات الزراعة في أرض هشّة الموارد.

 

1) مطر الوسم: البشارة الأولى

 

تبدأ السنة الزراعية برشة مبكرة في أواخر سبتمبر أو مطلع أكتوبر تُسمى «شِتوة المساطيح» وتُعد تطهيرًا للأرض وبداية لجني الزيتون. يتبعها مطر الوسم بمرحلتين:

 

  •  وسم بدري أكتوبر؛ يعلن استعداد البذور المبكرة ويشرع الفلاحون في الحراثة المنظّمة.

  •  وسم واخري في نوفمبر؛ يلين التربة ويهيئها للمطر الغزير.

  • يتردّد المثل: «إن وسمت عا عيد اللِّد واحرث وازرع»، فيتحول التوقيت إلى إشارة عمل.

 

2) أمطار الشتاء الثقيلة

 

من ديسمبر حتى مارس تهطل الأمطار الأكثر كثافة، فتشبع الأرض وتملأ البرك والخزانات وتغذي الينابيع. يضم هذا الطور المربعانية (أربعون يومًا باردة فاصلة) والخمسينية (خمسون يومًا تخف فيها البرودة وتلوّح بشائر الربيع). تصف الأمثال قسوة البرد وحدّة المطر، ثم تحكي أسطورة «الأيام المستقرضات» حين استعارت شباط أيامًا من آذار ليغدق العواصف، فيقال: «آذار أبو الزلازل والأمطار».

 

3) مطر الربيع المتأخر والثلج

 

بين منتصف مارس وأبريل، وتصل أحيانًا إلى مايو، تنزل أمطار أخف لكنها حاسمة لتسمين الحبوب والبقول. يقولون: «شِتوة نيسان بتحيي الإنسان»، فيما يترقّب المزارعون رياح السموم الدافئة عند عقد الزيتون لتجنب ضرر الأزهار. أما الثلج فندرته تزيد من رمزيته؛ يسقط غالبًا على الجليل والقدس ورام الله والخليل ونابلس، وتبقى أعوام مثل 1920 و1950 علامات في الذاكرة الجماعية حين احتجبت القرى أيامًا تحت الركام الأبيض.

 

نظام التنبؤ الشعبي بالمطر

 

طوّر الفلاحون نظامًا دقيقًا قائمًا على الفلك والرياح وإشارات الطبيعة وسلوك الحيوان. دلّ طلوع سهيل على خطر السيول، وأشار غياب الثريا إلى قرب المطر، وكشفت الهالات حول القمر والشمس في الخريف عن وفرة مرتقبة. رحّبوا بالرياح الجنوبية الغربية بوصفها «بوابة الشتاء»، وخشوا الشرقية لنذر الجفاف. دلّ قوس قزح صباحًا على صفاء قادم ومسائيًا على مطر ليلي، وكشفت الندى والضباب عن خصب محتمل.

 

راقبوا الطيور والدواب: تعشيش الحمام مبكرًا بشائر عام مبارك، ورفع الأبقار رؤوسها للسماء علامة مطر. حتى ولادات البشر قرئت رمزيًا بين أعوام القحط والبركة، في لعبة معنى تربط الإنسان بدورة الأرض.

 

ظل المطر محور الحياة ورمز الصمود في الوعي الفلسطيني. حوّل الناس المخاوف إلى معرفة عملية عميقة تعبر القرون. تقول الأرض، كلما تنفست تحت قطرة جديدة، إن الرابط لم ينقطع: ذاكرة ومقاومة وأمل يعبر من جيل إلى جيل، ما دام الغيث يعود إلى فلسطين.

 

https://www.middleeastmonitor.com/20251129-rain-season-and-the-rituals-of-predicting-the-rain-in-palestinian-heritage/